في فيلم ألماني أو سويسري شاهدته قبل سنوات، يحدث صراع في رأس الجبل بين عامل يقضي شهور الثلج لتأمين الاتصالات أو شيء من هذا القبيل، ورجل يفد إليه في كوخه، لعله لجأ من البرد، فأعجبه المكان حيث الدفء، والغذاء، فبعد أيام من إقامة الرجل يبدأ تطور الصراع، والذي يصير صراعا دمويا.
في الفيلم كل منهما بحث عن خلاصه، لكن خلاص كل واحد منهما لم يحدث إلا بعد ضمان خلاصهما معا. لقد أيقنا أن نفي (قتل) أحدهما يعني قتلا لهما.
لا أدري لم قفزت مشاهد هذا الفيلم إلى ذهني وأنا أترقب وأشاهد هطول الثلج على الجبال والوديان، خصوصا في هذه الفترة المغبرة من حياتنا العربية، حيث لم نعد ندري ما يجري هنا وحولنا على الحقيقة.
والحقيقة التي نجمع عليها هنا هو تعرضنا لخراب فكري وسياسي ومادي، يسلبنا منجزاتنا ويعيدنا إلى الوراء كثيرا.
لن يكون هذا الخلاص فرديا أبدا، ولا وطنيا فقط، بل قوميا!
يقول الشاب القرويّ: سمعت أبي يقول أن السنة التي يكثر المطر فيها، تحدث فيها حروب..!
فأقول ساخرا، هل كان عامنا هذا ممطرا؟
ما دخل المطر بالحروب!؟
سننشغل في تحميل المسؤولية على الآخرين، فماذا فعلنا وماذا علينا نحن أن نفعل؟
الأطفال يبتهجون بالثلج الأبيض الساحر، فيما يقلق الكبار عليهم من البرد، وينشغلون وقت البياض بما يجلب الدفء، وأنا معهم. شاي وزيت وزعتر وتطلي عنب وطحينية، رائع هذا مع قراءة رواية أو مشاهدة فيلم، أو سرد قصة للأطفال، أو اللعب معهم، كل ذلك ينعش الروح ويجلب لها الدفء.
استطعنا البقاء في بلادنا العربية بأقل الأشياء، عشنا مع المطر والرياح، مع الخماسين والثلوج، زرعنا وأكلنا ومضينا، لكننا كنا ندري الطريق فنسير به، أفرادا وجماعات ودول، لكن ما الذي جدّ في حياتنا حتى صرنا نتلفت حولنا حذرين من داعش بيننا أو حولنا؟
نطيل النظر ليلا في الأبيض وفي النهار، نفكر في هذه العاصفة، ونلوذ بالحطب المحترق، بطاقة حرارته، باحثين عن دور لنا، نحن الشعوب العربية، ما الذي جعل داعش تحتل مجالسنا وأحاديثنا وإعلامنا، وداخل عبارات الغزل بين العشاق!
أسود، هو أسود هذا الحال، بما ينذر به من ضياع وتضييع؛ فهل وصلنا إلى هذه الدرجة من العجز والخوف؟
أسود مظلم ما نعيشه، لا ندري من نسالم ومن نحارب فعلا، فترانا نحارب بعضنا، هل كانت نبوءة أو لعنة أصابتنا؟
هناك وقت للتفكير والتأمل والتحسّر والتفجع، لا يخفف منه بياض الثلج الذي يلفنا، وحتى الثلج فهو ببياضه الحلو يغطي الأرض ويحجب نور أشجارها ونباتها وأزهارها.
في الخارج أبيض وفي النفس غيره، وصراع بأدوات العصر التكنولوجية، حرب في الخارج، شرقا وغربا، وهنا؟ ماذا عن هنا؟ والمطلوب أن تحارب داعش أو أن تلتحق به، فماذا عنا نحن الشعب، الذين نريد أن نحافظ على بيوتنا وأطفالنا؟
لنا نحن الناس أن ننشغل بحالنا، بأسرنا، بالتعليم والصحة، بالعمل والكروم، والمصانع الصغيرة، وبحكايتنا ونوادرنا، كما كنا نفعل ذلك من زمن، كما كان من قبلنا يفعل، فهل صحيح أن هؤلاء منا؟ وهل هؤلاء الدواعش نبت نشأ في أرضنا العربية؟ أم هو نبت وهميّ؟
أينما تمضي تجد داعش أمامك: داعش على ألسنة الأطفال، داعش في وسائل الإعلام، داعش هنا وهناك، ألا يوجد غير داعش لننشغل فيه؟
تشظينا صرنا أفردا ، لم نعد جماعات كما كنا ولا مجتمعات، لذلك ضعفنا وشعرنا بالوحدة والاغتراب، وصرنا إلى الخلاص الفردي أميل، ولا خلاصا فرديا أنجزنا لسبب بسيط، أن الخلاص واحد.
نحن بحاجة للعودة إلى أدنى درجات التضامن والوحدة، إلى أن نكون معا، حتى لا نمنح أحدا فرصة لزراعة داعش جديدة، التي تتكاثر كالجراد فتغزونا.
ماذا عن دورنا؟ وهل يمكن أن يكون هناك دور في ظل هذا التبعثر والغبار؟
- وهل ما زال هناك مجال للإنقاذ؟ أمل؟
- لا يمكن أن تهزم الشعوب، لكن من السهل أن يهزم الأفراد!
- وهذه الشعوب..
- شكل الشعوب وجوهر الأفراد.
- ؟
- لكن من السهل أن تكون إن امتلكت الإرادة.
أترك حواراتي مع الناس ومع نفسي، وألوذ برواية أمضي الوقت بها، متأملا بياض الثلج ولعب الأطفال واللهب، فماذا يمكن أن نعدّ لما بعد الشتاء والربيع الطلق على الأبواب، والصيف قادم لقطف ثمار الأرض، لا بدّ للثمار من قاطف!
- في البدء يكون المطر، أم تكون الأرض؟
- ما الفرق؟
- ...........
- يكون تراب ويكون مطر وتكون بذور فيكون نبات وثمر.
- منطق واضح هو منطقك لكن أين التراب؟
- كل هذا التراب أمامك وخلفك وحولك ولا تراه؟
- أرى الرمال!
- اكشف الرمال قليلا، ستكتشف التراب، واهبط تحته ستكتشف الماء، فقط افعل!
- أنت تمنحني الأمل، لكنك تدفعني للعمل المتعب والشاق!
- إذن فاذهب واصنع دمى من الثلج!
- ..................
أبيض وأسود، ثنائية قديمة، لكن من قال عن اختفاء درجات البياض والسواد؟ والألوان؟
لماذا نحن محكومون بالثنائيات؟ وهل للغة دخل في ذلك والثقافة؟
ربما، لكن ليس هذا إلا انعكاسا لما نحيا، فنحن محكومون بالمشاعر، ولنا أن نشعر بالأبيض والأسود وباقي الدرجات والألوان، لكن الأبيض كثير والأسود أكثر، فماذا نحن صانعون؟
كما صنعت الشعوب الأخرى نصنع: نتحلى بالإرادة، نتكاتف ونربي الجيل الجديد بما هو أفضل، وننقذه من سلبياتنا.
نفكر بغد، وبعد غد، فلا نظل نحيا في الأمس.
نرجع السلم الأهلي والاجتماعي إلى بيوتنا وأحيائنا، فنربي الحب حتى يكبر ويظل حبا.
نكون أكثر وضوحا، فننبذ التطرف من بيننا، ولا نسمح لأحد بتقسيمنا إلى أقسام وهمية، نعيد أنفسنا إلى الفطرة، لا نؤدلج ولا نسيّس الأمور، ولا ينصبنّ أحد علينا إماما وقاضيا ووصيا!
لن يكون هذا الخلاص فرديا أبدا، ولا وطنيا فقط، بل قوميا!
لكن لذلك استحقاقات حسب كل دائرة: من الأكبر للأصغر والعكس، تضامن عربي، ووحدة وطنية لكل دولة، وإصلاح الأحزاب، ووقف التناقض الوهمي بين الملل والنحل حتى وإن كثرت واختلفت، فهناك ما نهدف إليه، أن نكون، ولن يكون أحدنا وحده ما لم نكن معه.
تحصين الأسر، وبناء أسر جديدة نقية، عودة المواطن العادي قليل الشعارات كثير العمل، يعتمد على نفسه، ولا يسرق الدولة.
هنا نفتح طاقات كثيرة للأمل.
بوضوح الشمس والهواء تكون الحياة.
الرمز واضح، والطريق أكثر وضوحا.
بقي أن نمشي، ونركض..إن أردنا.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق